Category: صفحات من تاريخ رومانيا

  • الطب الاستوائي  في  رومانيا

    الطب الاستوائي في رومانيا

    تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي جاء على خلفية انتشار الأفكار المروجة للمساواة بين الأمم وتعاظم نضال الشعوب المسعمرة من أجل الاستقلال . فقد انفتحت الدول الناشئة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية على العالم وأقامت علاقات تعاون مع بلدان عديدة فوجهت رومانيا سياستها الخارجية نحو دول العالم الثالث بينما خصصت لها دول الشمال برامج إغاثة ومساعدة اقتصادية وتعليمية في محاولة منها للمساهمة في إزالة تداعايات المآسي الإنسانية من المجتمعات المتضررة جراء النزاعات المسلحة أو للمساهمة في تطوير المجتمعات المتخلفة. ومع الزيادة التي شهدها تنقل الأشخاص بين شمال القارة وجنوبيها على خلفية الانفتاح الجديد زادت المخاطر الصحية المترتبة على حركة الأشخاص فسعت رومانيا إلى تطوير مجالات جديدة للبحث العلمي الطبي ومن بينها مجال أمراض المناطق الحارة . ولكن حالة التناحر بين الكتلة الاشتراكية التي تضمنت الدول الديمقراطية السابقة التي احتلها الاتحاد السوفييتي عام 1945 وحولها إلى أنظمة ديكتاتورية قمعية وبين الدول الغربية الحرة كانت لها انعكاسات واضخة في مجالات شتى ومن بينها الطب الاستوائي . المؤرخ بوغدان كريستيان إياكوب – مؤلف كتاب حول تاريخ الطب الاستوائي في رومانيا قبل عام 1989 قارن بين الكتلة الاشتراكية والعالم الغربي من ناحية موقف كل منهما إزاء الطب الاستوائي في ستينيات القرن الماضي وهو الموضوع الذي تطرق إليه أيضا الطبيب لودوفيك باون – أحد أبرز الأخصائيي أمراض المناطق الحارة .لنستمع إلى المؤرخ بوغدان كريستيان إياكوب :


    ”كانت المنشورات العملية التي صدرت في الدول الاشاراكية في ستينيات القرن الماضي تقلل من شأن خبراء الطب الاستوائي الغربيين ودورهم في تطوير هذا المجال .وهنا تجدر الإشارة إلى أن قرارا صدر عام 1974 عن جمعية الصحة العالمية وهي هيئة برلمانية تابعة لمنظمة الصحة العالمية قضى بتأسيس برنامج خاص لدراسة أمراض المناطق الحارة كان قد أقر بمبادرة من الدول الاشتراكية والدول الإفريقية لكن في الواقع كان الغربيون هم من طرحوا لأول مرة فكرة التنسيق بين بلدان العالم من أجل تطوير أبحاث الطب الاستوائي . وقد تطرق الطبيب الروماني لودوفيك باون إلى دور الدول الغربية في دراسة الأمراض الاستوائية بعد عامين على إقرار القرار وذلك أثناء حضوره الجلسة الأولى للبرنامج الخاص بدراسة أمراض المناطق الحارة التابع لمنظمة الصحة العالمية.وأكد الطبيب باون أن أيا من الدول اشتراكية لم تشارك في الأبحاث العلمية تلك لمجرد أن الدول الاشتراكية لم تكن مهتمة بتكوين أخصائي أمراض استويائية قادرين على دعم مثل هذا الرنامج العلمي واسع النطاق على المدى البعيد .كما لاحظ الدكتور باون أيضا مشاركة منظمات مالية دولية وشركات أدوية في ذلك الاجتماع . وقد تم أثناء الاجتماع إطلاق برنامج واسع للبحث العلمي الطبي مع تأمين أسواق للأدوية الجديدة التي كانت ستنتج في المستقبل.”


    بدايات تاريخ الطب الاستوائي الغربي تعود إلى الفترة الاستعمارية. لكن حالة التناحر بين الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية انعكست أيضا في تباين الرؤى عن بين الكتلين. فقد اعتبرت الأنظمة الشيوعية أن الطب الاستوائي الغربي يركز على الكنولوجيا في المقام الأول واقترحت في المقابل التركيز على المريض والتربية الصحية. يقول بوغدان كريستيان ياكوب إن حتى إيجاد مصطلحات طبية مشتركة بين الجانبين كان أمرا مستعصيا :” الطب الاستوائي كان مهملا في رومانيا في ستينيات القرن الماضي . فحتى مصطلح “استوائي ” كان ممنوعا استخدامه بحيث سميت البلدان الاستوائية “بالبلدان الحارة ” وصنفت الأمراض الاستوائية ضمن قائمة الأمراض المعدية في سياق مشاركة رومانيا في برنامج القضاء على الملاريا . من جانب آخر لم ترغب قيادة رومانيا في ستينيات القرن الماضي في الانخراط في بلدان جنوب الصحراء وهو سبب آخر في عدم تطوير مجال الطب الاستوائي في رومانيا في ستينيات القرن الماضي إلا أن الأمور تغيرت ابتداء من عام 1970 عندما رأى نيكولاي تشاوشيسكو في الجنوب العالمي بديلا اقتصاديا وسياسيا عن الغرب والدول الاشتراكية الأخرى ومصدرا للمواد الأولية .”



    تطور الطب الاستوائي في رومانيا اعتمد على عاملين أساسيين أولهما أسيوي والآخر إفريقي. فالعامل الأول هو التعاون مع الهند حيث استفاد الأطباء الرومانيون ومن بينهم لودوفيك باون من دورات تدريب في الهند .أما العامل الثاني فتمثل في المساعدة الطبية التي قدمتها رومانيا لبعض الدول الإفريقية ومن بينها الكونغو كينشاسا أي وجمهورية الكونغو الديمقراطية الحالية والكونغو وغينيا وأنغولا وموزمبيق بإرسالها أطباء إلى تلك البلدان تمكنوا أثناء عملهم هناك من دراسة الأمراض الاستوائية. لكن اتساع رقعة وباء الكوليرا إلى منطقة البلقان وغرب الاتحاد السوفييتي في عام 1961 كان العامل الحاسم الذي أقنع السلطات الرومانية بضرورة إيلاء الاهتمام لهذا المجال بشكل فعلي . كما أن وجود طلاب آسيويون وأفارقة في رومانيا إلى جانب عاملين رومانيين عائدين من تلك البلدان وهم يحملون عدوى مميزة للمناطق الحارة دون أن تظهر عليهم أعراض الإصابة دفعت عجلة الأبحاث الطبية وإنتاج اللقاحات المضادة. وفي عام 1974 أنشئ قسم أمراض المناطق الحارة في مستشفى الأمراض المعدية في بوخارست وحقق البحث العملي نجاحات كبيرة خاصة في علاج الملاريا وداء البلهارسيا وداء المثقبيات ومرض النوم وداء الليشمانيات والجذام وداء الفيل وداء الأورام. كما تضمن البرنامج دراسة الأمراض المعدية التي تقتضي فرض الحجر الصحي مثل الكوليرا والحمى الصفراء والطاعون والتيفوس الطفيلي والجدري.


    في سبعينيات القرن الماضي اتبع الطب الاستوائي الروماني نهجا جديدا فأصبحت مراجع مؤلفي المقالات العلمية تتضمن أسماء أطباء وباحثين غربيين خاصة من بلدان ناطقة بالإنكليزية .كما طبقت رومانيا نموذجا مستقلا للبحث العلمي لم يكون مستوحى من الغرب ولا من الكتلة الاشتراكية. أما في ثمانينيات القرن الماضي فركز اهتمام عالم الطب على مرض الإيدز والتحديات الجديدة التي فرضت على الأجندة الدولية مواضيع نقاش جديدة طبية وأخلاقية وسياسية واقتصادية.


  • الثورة  المناهضة   للنظام الشيوعي في  رومانيا

    الثورة المناهضة للنظام الشيوعي في رومانيا

    يحمل شهر ديسمبر كانون الأول من كل عام معنى مزدوجا فهو شهر الأعياد الشتوية التي عادة ما تكون أجواؤه مليئة بالبهجة ولكنه أيضا شهر مفعم بالعاطفة والإحساس كونه شهر الثورة التي أطاحت بنظام تشاوشيكو الديكتاتوري وأعادت للرومانيون الحرية والديمقراطية لأول مرة بعد نحو خمسين عاما على تولي الشيوعيين السلطة في البلاد . ورغم مرور أربعة وثلاثين عاما على الثورة وعلى الرغم من اختلاف الآراء حول الأحداث التي شهدتها رومانيا آنذاك اختلافا شديدا إلا أن أحدا لا يجادل في أن الأسبوعين الأخيرين من شهر ديسمبر عام 1989 يمثلان لحظة فارقة في تاريخ رومانيا الحديث .. فعلى مدى الأيام العشرة ما بين اندلاع احتجاجات سكان تيميشوارا وإعدام الديكتاتور نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته إليينا أطلق الشعب العنان لانتفاضته على نظام حرمه من أبسط مقومات الحياة لتنفجر فجأة الطاقات السلبية التي كانت تراكمت لديه بسبب معاناته الطويلة. أحداث سطرت اللحظات الأخيرة لنظام مجرم وغير شرعي كما سطرت اللحظات الأولى من حقبة جديدة عادت فيها الأمور إلى مجراها الطبيعي ..


    في السادس عشر من ديسمبر عام 1989 تجمع متظاهرون أمام منزل القس البروتستانتي لازلو توكيش في مدينة تيميشوارا ليقفوا سدا منيعا أمام قوات الشرطة التي كانت تحاول إجلاء القس عنوة بغية ترحيله القسري إلى مدينة أخرى . في الأيام التالية اتسعت الاحتجاجات وازدادت حدة وزخما فردت أجهزة القمع ممثلة بالجيش والشرطة بفتحها النار على المتظاهرين بأمر من تشاوشيسكو شخصيا ما أسفر عن مقتل مئات المدنيين. في الثامن عشر من ديسمبر أعلن عمال المصانع إضرابا عاما بينما كان وسط المدينة يتحول إلى مركز لاحتجاجات عارمة انتزع المتظاهرون أثناءها شعار الحزب الشيوعي من العلم الوطني رددوا نشيد رومانيا القديم الذي تقول كلماته “استيقظ أيها الروماني!” وهو نشيد ثوار عام 1848 الذي كان محظورا في الحقبة الشيوعية وأصبح بعد ثورة ديسمبر نشيد رومانيا الوطني. وفي نفس يوم الثامن عشر من ديسمبر وبعد تفريق المظاهرات في تيميشورا غادر تشاوشيسكو رومانيا متوجها إلى إيران رغم تطورات الأحداث محليا لقناعته العميقة بولاء أجهزة الأمن وحاشيته له . وفي العشرين من ديسمبر عاد تشاوشيسكو من زيارته لإيران وفي مساء نفس اليوم ظهر على شاشات التلفزيون ليلقي خطابا أدان فيه مظاهرات سكان تيميشوارا. وفي نفس الليل عقد اجتماعا مع حاشيته في اللجنة السياسية التنفيذية قرر فيه إقامة تظاهرة شعبية ضخمة دعما له وإدانة لسكان تيميشوارا في اليوم التالي أمام مقر اللجنة المركزية للحزب في بوخارست


    باول نيكوليسكو ميزيل كان مسؤولا رفيع المستوى في الحزب الشيوعي وتقلد مناصب سياسية هامة كما شغل حقيبة التجارة الداخلية. و في ديسمبر عام 1989 كان نيكوليسكو ميزيل عضوا في في اللجنة السياسية التنفيذية. وفي مقابلة أجراها معه مركز التاريخ المروي للإذاعة الرومانية عام 1997 تحدث نيكوليسكو ميزيل عن تنظيم تلك المظاهرة في الحادي والعشرين من ديسمبر وسئل عمن هو الشخص الذي اقترح على تشاوشيسكو حشد الجماهير أمام مقر اللجنة المركزية رغم أجواء التوتر الشديد التي سادت البلاد :


    “في عام 1989 لم يكن بإمكان أي من أعضاء اللجنة السياسية التنفيذية أن يطرح اقتراحات على تشاوشيسكو! إذا من هم الذين كان بإمكانهم طرح الفكرة عليه ؟ ربما الأمن والجيش أو ربما أحد رفاقه المقربين لأنه لم يكن يتشاور مع أحد. قلت لتشاوشيسكو أن أسوأ شيء هو أنه لا يتشاور مع الأشخاص الذين يسمون الأشياء بأسمائها. قلت له: “أيها الرفيق تشاوشيسكو أنت تحيط نفسك بأشخاص يفتحون باب مكتبك وقبل أن تنطق بكلمة واحدة يقولون لك أنك على حق وهم لا يزالون على عتبة الباب لم يدخلوا المكتب بعد . عليك أن تحيط نفسك بأشخاص يقولون لك أنك أخطأت إذ كنت مخطئا لأن أولئك الذين يقولون لك دائما أنك على حق سوف يطعنونك في الظهر. لقد قلت له ذلك حرفيا مرات ومرات .”


    مظاهرة الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1989 في بوخارست تحولت لدهشة تشاوشيسكو وزوجته إلى تظاهرة احتجاجية صاخبة عبر فيها سكان بوخارست عن كراهيتهم للديكتاتور وزوجته . فقد رددوا هتافات ضد الديكتاتور وأطلقوا صيحات استهجان فغادر تشاوشيكسو وحاشيته شرفة اللجنة المركزية التي كان يلقي منها خطابه .وفي مساء نفس اليوم بدأت أعمال القمع ضد المتظاهرين. وفي اليوم التالي انتحر وزير الدفاع الجنرال فاسيلي ميليا في مكتبه وهو الحدث الذي حسم مصير تشاوشيسكو بحسب باول نيكوليسكو ميزيل: “كان تشاوشيسكو يظن أن الشعب يريده وقد لمسنا ذلك أثناء محاكمته أيضا . في صباح يوم الثاني والعشرين من ديسمبر كان وزير الدفاع ميليا أول من أيقظ تشاوشيسكو الذي كان قد قضى الليل في مكتبه في مقر اللجنة المركزية ليبلغه بوقوع قتلى أثناء الليل أمام فندق إنتركونتيننتال. فسأله تشاوشيسكو: “لماذا يا ميليا؟ من أمرك بإيقاع قتلى؟” أعلم علم اليقين أن الجنرال ميليا بعد أن خرج من مكتب تشاوشيسكو ذهب إلى مكتب مجاور واتصل بوزارة القوات المسلحة ومعاونيه وقال لهم أن الأضاع مأسواية وأن تشاوشيسكو غاضب بسبب وقوع قتلى . أستطيع أن أؤكد لكم أن ما قيل آنذاك من أن ميليا انتحر رميا بالرصاص بسبب وقوع قتلى قول غير صحيح فالجنرال ميليا انتحر رميا بالرصاص ليس ندما عن قتل المتظاهرين أمام فندق إنتركونتيننتال بل لأن تشاوشيسكو ألقى اللوم عليه عن ذلك .”


    في الثاني والعشرين من ديسمبر 1989 عام نظم عمال المصانع الكبرى في بوخارست مسيرات ومظاهرات أمام مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فهرب تشاوشيسكو وزوجته بطائرة هليكوبتر. وفي اليوم التالي ألقي القبض عليهما قرب مدينة تارغوفيتشي جنوبي البلاد . وفي الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1989 جرت محاكمة تشاوشيسكو وزوجته فصدر بحقهما حكم الإعدام .وفي نفس اليوم نفذ الحكم في ثكنة بالمدينة .


  • تنظيم الأكاديمية  الرومانية وفق النموذج السوفييتي بعد الحرب العالمية الثان

    تنظيم الأكاديمية الرومانية وفق النموذج السوفييتي بعد الحرب العالمية الثان

    فرض السوفييت على بلدان أوروبا الوسطى والشرقية وروبا الوسطى والشرقية التي احتلها الجيش الأحمر بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية نظاما سياسيا مماثلا لنظام الحكم السوفييتي . إنها العملية المعروفة بعملية إضفاء الطابع السوفييتي الشيوعي على الدول المعنية من أجل ضمان سيطرة الحزب الشيوعي على المشهد السياسي بمساعدة جهاز شرطوي قمعي من جهة وفرض نموذج الاقتصاد المركزي على تلك الدول ومن بينها رومانيا من جهة أخرى..


    لقد خضعت جميع المؤسسات الرومانية لعملية ممنهجة لإضفاء الطابع السوفييتي عليها وكانت من بينها الأكاديمية الرومانية التي تأسست في عام 1866 وضمت إلى عضويتها على مدى الثمانين عاما التالية خيرة العلماء الرومانيين والأجانب .لكن الحكومة الموالية لموسكو التي تولت السلطة في السادس من مارس آذار من عام 1945 قامت بحل الأكاديمية القديمة وتأسيس أكاديمية الجمهورية الرومانية الشعبية التي سميت لاحقا في سبعينيات القرن الماضي بأكاديمية جمهورية رومانيا الاشتراكية .وكان اختيار أعضائها الجدد يعتمد على معايير إيديولوجية صرفة وأهمها اعتناق العقيدة الماركسية والولاء للنظام الشيوعي .. تداعيات حل الأكاديمية القديمة كانت سلبية للغاية إذ تم طرد أو تهميش مائة من أعضائها القدامى وتم اعتقال ثلاثين ممن شغلوا في السابق مناصب وزارية فيما أودع عشرون منهم في سجن “سيغيت” الرهيب المعروف بسجن الورزاء حيث لقي ستة منهم حتفهم ..



    أندريا دوبيش الباحثة في متحف سجن “سيغيت ” السابق تعرفنا بمصير بعض من أعضاء الأكاديمية السابقين بعد سجنهم . المؤرخ ألكساندرو ليباداتو انتحر شنقا في السجن في عام 1950 عن عمر ناهز الثالثة والسبعين متأثرا بمعاناته من مرض المعدة ونقص الرعاية الطبية : ” اعتقل إلكساندور ليباداتو ليلة الخامس من مايو أيار عام 1950 بعد مداهمة منزله ومصادرة أجندات تلفونية وبعض الكتب ومن بينها كتاب في تاريخ الولايات المتحدة وأيضا بعض المال إضافة إلى ساعة يد ووثائق شخصية. لم تجد الشرطة أثناء التفتيش أي شيء من شأنه أن يثير انتباه جهاز الأمن فالتقرير الرسمي الذي تم إعداده في ربيع عام 1950 بشأن الأشخاص الذين شغلوا حقائب وزارية ما بين عامي 1918 و1945 أي قبل تولي الشيوعيين السلطة ذكر أن ليباداتو لم يقم بأي عمل أو نشاط يمكن أن يوحي بمعارضته للنظام الشيوعي ومع ذلك وصفه التقرير بالعدو اللدود للنظام الشيوعي ..”



    غورغي تاشكا خبير الاقتصاد ووزير التجارة في عام 1932 سجن أيضا في سيغيت :”اعتقل تاشكا وهو في الخامسة والسعبين من العمر ليلة الخامس من مايو أيار عام 1950 وأودع في سجن سيغيت حيث توفي بعد أقل من عام على سجنه في شهر مارس إذار عام 1951 لأن ظروف الاعتقال كانت قاسية جدا بل أسوأ من أن يتحملها سجين مريض .. المؤرخ كونستانتين جوراسكو الذي قضى في سيغيت خمس سنوات قال في مذكرته التي كتبها في السجن إن تاشكا توفي بسبب التهاب رئوي فاقمته حالته الصحية الرديئة ومعاناته الرهيبة في السجن ..أما المحامي ونائب كيل وزارة الخارجية ألكسندرو بوبيسكو نكشيشتي فذكر أنه كان يسمع صوت تاشكا ليلا وهو ينتحب في زنزانته”.


    المؤرخ البارز غورغي براتيانو سجن أيضا في سيغيت حيث توفي في عام 1953 عن عمر ناهز الخامسة والخمسين ولكن ملابسات وفاته غامضة إذ لا يزال المؤرخون يتساءلون عما إذا كان سبب وفاته الضربات في الرأس أم مرض السل الذي كان يعاني منه أم الانتحار:


    تعرض غورغي براتيانو لحملة عنيفة شنتها الصحافة الموالية للشيوعيين عليه منذ عام 1944 .في آب أغسطس عام 1947 فرضت عليه الإقامة الجبرية بحجة أن الظروف تقتضي تأمين سلامته . وفي مايو أيار عام 1950 أرسل إلى سجن سيغيت . وقال جوراسكو في مذكرته إنه سمع ذات مرة أصواتا بينما كان براتيانو في الباحة وأدرك أنه يتعرض للكمات وصفعات على أيدي رجال الشرطة .. وقال سجين آخر إن رجال الشرطة أجبروا براتيانو على تنظيف حظيرة الخنازير من البراز باليد وذلك قبل وفاته بيوم واحد.”


    الأكاديمي السابق ورجل السياسة البارز يوليو مانيو الذي لعب دورا هاما في قيام الدولة الرومانية الموحدة عام 1918 خضع لمحاكمة صورية قبل الزج به في السجن :


    ” في نوفمبر تشرين الثاني عام 1947 أدين مانيو بالخيانة العظمى وحكم عليه بالسجن المؤبد فأرسل إلى سجن غالاتي أولا وثم إلى سيغيت عام 1951. كانت حالته الصحية رديئة للغاية وكان يعاني من شلل شبه كامل. “



    توفي مانيو في السجن في عام 1953 عن عمر ناهز ثمانين عاما فألقيت جثته في حفرة بمقبرة الفقراء في أطراف مدينة سيغيت . أما أعضاء الأكاديمية السابقون الذين صمدوا لظروف الاعتقال القاسية في سجون النظام الشيوعي وأطلق سراحهم تحت ضغط الرأي العام الدولي بين شهري يونيو حزيران وآب أغسطس من عام 1967 فقضوا السنوات الأخيرة من حياتهم في فقر مدقع وعزلة اجتماعية فيما استمرت السلطات الشيوعية في ملاحقتهم واحتجازهم بشكل مؤقت من حين لآخر للاستجواب وإعداد تقارير حول مواقفهم السياسية ..في عام 1990 أعادت الأكاديمية الرومانية إدراج أسمائهم في قائمة أعضائها الدائمين.



  • عام 1918  ورومانيا  الجديدة

    عام 1918 ورومانيا الجديدة

    أي دراسة للتغييرات السياسية التي شهدتها أوروبا في نهاية الحرب العالمية الأولى إثر تغيير حدود بعض الدول وظهور دول جديدة على الخريطة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حدثين كانت لهما آثار بالغة الخطورة على الشعوب الأوروبية أولهما قائم على وقائع هي الحرب العالمية الأولى التي حصدت أرواح أكثر من عشرين مليون شخص بين عسكري ومدني وأوقعت ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين مليون جريح. كانت مواجهة عسكرية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية بين كتلتين عسكريتين متناحرتين هما قوى الوفاق التي تكونت من فرنسا وبريطانيا وروسيا واليابان وإيطاليا والولايات المتحدة من جهة والقوى المركزية التي تضمنت ألمانيا والنمسا والمجر وتركيا وبلغاريا من جهة أخرى . فكانت الحرب العالمية الأولى كغيرها من الحروب التي شهدها التاريخ الحديث الحدث الذي حسم ترسيم الحدود الجديدة في أوروبا أما الحدث الثاني القائم على أوهام فهو انتصار الثورة البلشفية التي اندلعت في روسيا القيصرية إبان الحرب وأعطت كل من اعتقدوا أن الوقت كان قد حان لبناء عالم أفضل على أنقاض العالم القديم دافعا قويما للغاية للمضي قدما في تحقيق أهدافهم .


    دفعت رومانيا ثمن الحرب باهظا من دماء أبنائها . فرغم أنها دخلت الحرب بعد عامين على نشوبها أي في عام 1916 إلا أن الرومانيين قدموا من التضحيات في العامين الأخيرين منها ما كان يكفي للسنوات الأربع بأكملها إذ تشير الإحصاءات إلى أن نسبة تتراوح ما بين خمسة فاصلة سبعة بالمائة وتسعة بالمائة من إجمالي عدد سكان رومانيا آنذاك أي ما بين خمسائة وثمانين ألف نسمة إلى ستمائة وخمسة وستين ألف نسمة لقوا حتفهم إما في القتال أو جراؤ القتال أو بسبب وباء التيفوس .تضحيات كوفئت بإقامة الدولة الرومانية الوطنية الموحدة عقب اتحاد منطقة باسارابيا مع مملكة رومانيا في السابع والعشرين من مارس آذار عام 1918 وثم باتحاد منطقة بوكوفينا معها في الثامن والعشرين من نوفمبر تشرين الثاني وأخيرا باتحاد كل من منطقة بانات وماراموريش وترانسيلفانيا مع مملكة رومانيا في الأول من ديسمبر كانون الأول عام 1918. وقد ارتقى العاهل الروماني الملك فرديناند وقرينته الملكة ماريا إلى جانب المسؤولين السياسيين الآخرين إلى مستوى أهمية الأحداث التاريخية التي عاصروها بحسب المؤرخ إيوان سكورتو:


    “انخرط رئيس حزب الوطني الليبرالي إيون بريتيانو في الأحداث التي توالت بعد نهاية الحرب وتكللت باتحاد جميع الأراضي ذات الأغلبية الرومانية ضمن دولة وطنية موحدة .. فقد أرسلت كل من منطقة باسرابيا وبوكوفينا وترانسيلفانيا مندوبين إلى مدينة إياش لإجراء مباحثات مع الملك فرديناند وبراتيانو وغيرهما من المسؤولين السياسيين حول الخطوات التي كان يتوجب القيام بها من أجل إعلان الاتحاد. وقد ترأس براتيانو الوفد الروماني إلى مؤتمر باريس للسلام حيث واجه كبار السياسيين آنذاك وبينهم الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس الوزراء البريطاني . الملك فرديناند كان ألمانيا وكان قبل مجئه إلى رومانيا ضابطا في الجيش الألماني. وعندما قرر مجلس التاج دخول الحرب ضد ألمانيا ضحى الملك باعتباراته شخصية من أجل رومانيا .وتجدر الإشارة إلى دور الملكة ماريا في إقناع الملك بتقديم تلك التضحيات من أجل الشعب الروماني و القبول بدخول رومانيا الحرب إلى جانب قوى الوفاق . وقد وقف الملك والملكة إلى جانب الشعب والجيش والزعماء السياسيين طوال سنوات الحرب “.


    في الأول من ديسمبر كانون الأول من عام 1918 انعقدت في مدينة ألبا يوليا الجمعية الوطنية للرومانيين في ترانسيلفانيا حيث طالب المجلس الوطني الذي كان هيئة تمثيلية ذات صلاحيات تشريعية – طالب بعقد اجتماع لمندوبي المناطق وعددهم ألف ومئتين وثمانية وعشرون مندوبا لصياغة بيان الاتحاد مع مملكة رومانيا والتصويت عليه اعتبارا منه بأن مثل هذا الحدث لا يمكن تكريسه إلا عبر الاقتراع العام . لقد كان الوقت قد حان ليستخدم الرومانيون حق التصويت وهو الحق الذي كانت الأحزاب الرومانية والمنظمات الوطنية في منطقة ترانسيلفانيا قد ناضلت من أجل الحصول عليه منذ عام 1881 اعتبارا منها بأنه يضمن أفضل تمثيل انتخابي للرومانيين.


    التصويت على اتحاد منقطة ترانسيلفانيا مع رومانيا جاء تعبيرا عن الإرادة الوطنية وجرى في وقت كان الاقتراع العام قد بات ضرورة وطنية ملحة في ظل انتشار الأفكار الداعية إلى تحولات راديكالية في أوروبا . المؤرخ وخبير السياسة دانييل باربو يعتقد أن اللجوء إلى الاقتراع العام كمماراسة ديمقراطية يجب تفسيره في سياق الثورات البلشفية وانشتار الفوضى في أوروبا بعد سنوات الحرب الأربع وهي تطورات كان المنخرطون في عملية التوحيد يشاهدونها بأم أعينهم : ” هل كان المشاركون في الجمعية الوطنية في ألبا يوليا أو على الأقل أولئك الذين كلفوا بصياغة بيان الاتحاد من الديمقراطيين؟ مما لا شك فيه أنهم كانوا من الوطنيين الرومانيين وأصحاب الخبرة البرلمانية والِسياسية . ماذا حدث في السادس من ديسمبر كانون الأول بعد التصويت على بيان الاتحاد ؟ الجيش الروماني احتل منطقة ترانسيلفانيا وكان لاعبا هاما للغاية في ترسيم الحدود وإعادة الهدوء إلى رومانيا .”

  • متحف سجن  دوفتانا

    متحف سجن دوفتانا


    أقامت الأنظمة الشيوعية والفاشية الدنيا ولم تقعدها بصيحاتها الهستيرية حول ما تعرضت له من قمع واضطهاد على أيدي الانظمة الديمقراطية .. ولكن ما إن استحوذت على السلطة حتى لجأت إلى القمع والاضطهاد لترهيب المجتمع وبث الرعب في النفوس .. أكثر الأنظمة الاستبدادية كذبا وإرهابا هو النطام الشيوعي . ففي رومانيا قام الحزب الشيوعي بعد وصوله إلى سدة السلطة بتظيم متاحف كانت بمثابة شهادت زور وظيفتها الرئيسية الترويج لخرافات الدعاية الساسية حول معاناة الشيوعيين بعد إعلان حزبهم حزبا خارجا عن القانون في عام 1924. وقد نظمت مثل هذه المتاحف في السجون التي أودع فيها أعضاء الحزب الشيوعي في الفترة ما بين الحربين العالمتين لتورطهم في أعمال إرهابية .وقد أصبح سجن دوفتانا مضرب مثل في كل المناسبات التي تحدث فيها الحزب الشيوعي عما وصفه بنضاله ضد النظام البرجوازي . وقع سجن دوفتانا في جنوب رومانيا على بعد مائة وعشرين كيلومترا عن العاصمة وافتتح في عام 1895 وفي الفترة كما بين الحربين العالميتين أصبح معروفا بلقب ” سجن الشيوعيين” أو “الباستيل ” الروماني . حيث أودع فيه قياديو حركة الحرس الحديدي اليمينية المتطرفة وبينهم مؤسس الحركة نفسه كورنيلو زيليا كودريانو وزعيمها الجديد بعد اغتيال الأول هوريا سيما بالإضافة إلى أوائل الزعماء الشيوعيين في رومانيا وفي مقدمتهم غروغي غرغيو ديج الذي انتخب رئيسا للحزب في عام 1947 إلى جانب أعضاء المكتب السياسي التنفيذي ومسؤولين في اللجنة المركزية للحزب ورموز الجيل الثاني من الزعماء وبينهم نيكولاي تشاوشيسكو .ظهر متحف سجن دوفتانا على خريطة رومانيا في عام 1949 في نفس موقع السجن السابق الذي سوي بالأرض أثناء زلزال عام 1940 المدمر. وقد شاركت في إنشاء المتحف بتبرعات نقدية كبيرة منظمات وجمعيات عديدة ومن بينها “جمعية المعقلين السياسيين والسابقين” والتي كانت فرعا من فروع “الاتحاد الدولي للمعقلين السياسيين السابقين وضحايا الفاشية” بالإضافة إلى ” الجمعية الرومانية للروابط مع الاتحاد السوفييتي ” رغبة منها في المساهمة في تغطية تكاليف إنشاء المتحف التي كانت باهظة فيظل الظروفالاقتصادية الصعبة التي مرت بها رومانيآنذاك.كريسيتان فاسيلي الباحث في معهد التاريخ التابع للأكاديمية الرومانية لديه التفاصيل :


    “في العاشر من نوفبمر تشرين الثاني من عام 1940 وقع زلزال قوي في رومانيا مسفرا عن انهيار الكثير من المباني ومن بينها سجن دوفتانا . لكن السلطات الشيوعية أعادت إنشاء السجن من الصفر وفق مخططات جديدة واستثمرت في المشروع مبالغ طائلة بحسب سجلات المحاسبة الرسمية رغم الظروف الصعبة التي مرت بها رومانيا في السنوات التي تلت نهاية الحرب.”


    يقول الباحث كريستيان فاسيلي إن الحزب الشيوعي اعتبر متحف سجن دوفتانا جزءا من تاريخه وسيرة حياة أعضائه البارزين :


    “في عهد غورغي غورغيو ديج الذي كان أول زعيم للحزب الشيوعي بعد توليه السلطة روجت السلطات بشكل كبير لقصة زنزانة الرفيق ديج . أما بعد وفاته في عام 1965 وتولي نيكولاي تشاوشيسك رئاسة الحزب فبدأت تروج لقصة زنزانة الرفيق تشاوشيسكو . بل قالت إن سجن دوفتانا هو نظير سجن الباتيل في فرنسا وأطلقت عليه “سجن النظام الرجعي في رومانيا “. ابتداء من عام 1969 بدأت السلطات الشيوعية تصف سجن دوفتانا بالمتحف الوطني لقمع الشيوعيون بل حاولت تداول فكرة أن متحف دوفتانا كفرع من فروع متحف تاريخ الحزب الشيوعي هو في الواقع متحف التاريخ الرئيس في رومانيا . ولكن مع مرور الوقت تخلت البروبغندا الشيوعية عن هذه الفكرة.”


    جعل النظام الشيوعي من متحف سجن دوفتانا مزارا ومحطة ألزامية في الجولات والرحلات التي كانت تنظم للتلاميذ والطلاب كما اعتادت منظمات الطليعة على إقامة مراسم قبول الأعضاء الجدد في باحة المتحف..الموسيقار ألفريد مندلزون كرس له في عام 1950 قصيدة سمفونية ومقطوعة للكورال .أما اأما أكثر سجناء دوفتانا شعبية هو الناشط الشيوعي إليلي بيتيليي الذي كان عضوا في اللجنة المركزية للحزب في ثلاثينيات القرن الماضي ولقي حتفه فيه أثناء زلزال عام 1940 . وقال الباحث كريستيان فاسيلي إن المنافسات بين المسؤولين الحزبيين رفيعي المستوى والصراعات السياسية بينهم فضلا عن تصفية الحسابات داخل الحزب الشيوعي ظهرت جلية للعيان في طريقة انتقاء صور الشخصيات المعروضة في المتحف .. على سبيل المثال عرض المتحف صور أوائل زعماء الحزب ليزيلها في عام 1965 عقب تولي ديج قيادة الحزب بسبب خلافاته مع أولئك القياديين :


    “صورة شيتفان فوريش لم تعرض في متحف سجن دوفتانا على الإطلاق غير أنه كان أمينا عاما للحزب بين عامي 1940 و1944 سجن في دوفتانا في الثلاثينيات . أما صورة الحزبي الشيوعي البارز لوكريتسيو باتراشكانو فقد عرضت في المتحف منذ افتتاحه ولكنها أزيلت في عام 1948 اتهامه بالخيانة وطرده من الحزب عقب بعد تولي غورغيو ديج قيادة الحزب . الشيء نفسه ينطبق على القيادية البارزة أنا باوكر التي شغلت منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية بين عامي 1947 و1952 والتي اختفت صورتها من متحف دوفتانا إثر طردها من الحزب من قبل غورغي غورغيو ديج .”


    أغلق متحف سجن دوفتانا ليختفي بلا أثر في عام 1990 ليس لشح الموارد المادية فسحب بل أيضا لأن الأكاذيب لا يمكن أن تعيش إلى الأبد .

  • الملك  كارول الثاني وأزمة عام 1940

    الملك كارول الثاني وأزمة عام 1940

    واجهت رومانيا ما بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي تصاعد النزعة التوسعية لدى القوتين الأوروبيتين العظميين آنذك ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي وأيضا لدى بعض الجيران كالمجر وبلغاريا . ففي السادس والعشرين من ييونيو حزيران عام 1940 وبعد على احتلال فرنسا من قبل ألمانيا النازية وجه الاتحاد السوفييني إنذارا إلى الحكومة الرومانية مطالبة إياها بتسليم كل من باسرابيا وشمال بوكوفينا لموسكو. وفي الثلاثين من آب أغسطس عام 1940 وقعت ألمانيا وإيطاليا على معاهدة فيينا التي قضت بأن تسلم رومانيا شمال ترانسلفانيا للمجر وفي الشهر التالي فرضت إيطاليا والنمسا على رومانيا تسليم جنوب دبروجيا لبلغاريا ..ففي ظل الأزمة العميقة التي عمت الدولة والمجتمع الروماني إثر فقدان البلاد أكثر من ثلث أراضيها قرر الملك كارول الثاني التخلي عن العرش وتسليم السلطة لقائد الجيش الجنرال يون أنتونيسكو الذي قام بتشكيل حكومة جديدة بالتعاون مع حركة الحرس الحديدي اليمينية المتطرفة فاشية الهوى .كان كارول الثاني رجلا قويا ذكيا استخدم سلطته للتلاعب بالآخرين من أجل تحقيق أهدافه . في عام 1938 حل البرلمان وحظر الأحزاب السياسية وأغلق الصحافة المستقلة وسن دستورا جديدا كرس ما يعرف في تاريخ رومانيا بنظام السلطة الشخصية للملك كارول الثاني الذي استمر حتى أزمة عام 1940 .. كان أبا قاسيا لنجله مياهي وأحاط نفسه بحاشية كانت بمثابة ديوان ملكي غير رسمي وتكونت من رجال أعمال أغنياء ومسؤولين سياسيين رفيعي المستوى كان لهم تأثير كبير على السياسة والاقتصاد وقد حامت حول الملك وحشيته فضائح فساد كبرى ..تميز كارول الثاني بكبرياء غير محدودة ففي خضم أزمة عام 1940 رفض التنازل عن العرش بشكل رسمي واكتفى بتسليم السلطة لقائد الجيش . من جانب آخر يرتبط اسم الملك كارول الثاني بالإنجازات الكبيرة التي شهدتها رومانيا في عهده ما بين عام 1930 و1940 وهو برأي المؤرخين الفترة التي تمتعت فيها رومانيا برفاهية غير مسبوقة . فقد بدأ التنظيم العمراني للعاصمة واغتنى قطاعها الشمالي بسلسلة من البحيرات الاصطناعية وتطورت الحاية الثقافة والفنية بشكل منقطع النظير وهي إنجازات جعلت بعض المؤرخين ينكرون الانطباع السائد بأن الملك كارول الثاني كان شخصية مشؤومة في تاريخ رومانيا المعاصر ..


    غورغي باربول كان السكرتير الشخصي للجنرال أنتونيسكو الذي كان قد ارتقى إلى رتبة المارشال. وفي عام 1984 أجرى المؤرخ ومقدم البرامج في إذاعة أوروبا الحرة فلاد جورجيسكو مقابلة مع غورغي باربول أصبحت في عام 1993 في حيازة مركز التاريخ المروي للإذاعة الرومانية . وقال باربول إنه على الرغم من الخلافات العميقة بين الملك والمارشال إلا أن الأخير كان مقتنعا بأن النظام الملكي كان كفيلا باسترارية الدولة الرومانية واستقرارها :


    “كان المارشال أنتونيسكو مقتنعا بأن النظام الملكي أمر لا بد منه في دولة فتية كرومانيا وهو النظام الوحيد الكفيل باستقرارها في ظل انتشار الخطابات الديماغوجية واستبدال الاقتراع المقيد بالاقتراع العام في عام 1917 و هو نظام انتخابي قال المارشال أنه استبدل أصحاب الأراضي بأصحاب الأصوات . لذا فكان المارشال يعتقد أن الملك كارول الثاني يجب أن يبقى على العرش أيا كانت خطاياه تفاديا لجر البلاد في حالة عدم استقرار خطيرة .. فيتلك الأثناء ذلك كانت المعارضة والحرس الحديدي يحاولان مساعدة ميهاي على تنحية والده فاعتقد الماريشال أن نجاح مساعي المعارضة كان ليزعزع استقرار الدولة مرة أخرى لا سيما وأن الملك نحى نجله في عام 1930 واعتلى العرش عوضا عنه .”


    رادوا بوروش سجن لأسباب سياسية بعد تولي الشيوعيين السلطة وقال في مقابلة مع ردايو رومانيا عام 1995 إن كارول الثاني كان حاكما بارزا ودعم تطوير صناعة الطيران في ثلاثينيات القرن الماضي :


    “شخصيا اعتبر كارول الثاني ملكا عظيما. ولو فهمه الرومانيون بشكل أفضل لكان بإمكانهم تحقيق المزيد من التقدم وقطع شوط أكبر مما قطعوه لأن الملك هو الذي وقف وراء كل الإنجازات التي شهدتها رومانيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى الحرب العالمية الثانية في الصناعة وفي الإدارة وغيرها من القطاعات . فكل الإنجازات تحققت بإرادته وتحت رعايته . لم تكن رومانيا تملك صناعة طيران وقت اعتلائه العرش وخلال الحرب العالمية الأولى كان لدينا عدد قليل من الطيارين والبالونات الأسيرة إذ كنا نهتم بالبالونات الأسيرة أكثر من اهتمامنا بالطائرات المقاتلة . لكن الوضع اختلف في الحرب العالمية الثانية عقب قرار الملك بتطوير الطيران بما فيه الطيران العسكري و إنشاء مصنع الطائرات في مدينة براشوف حيث صنعنا طائرة مقاتلة كانت في نهاية الثلاثينيات واحدة من الطائرات المقاتلة الجيدة . ولكن إلى جانب الطيران العسكري عمل الملك على تطوير الطيران المدني إدراكا منه لأهميته كوسيلة نقل في المستقبل فقرر إنشاء الشركة الرومانية للنقل الجوي.”




  • الشبيبة والسياحة والتربية  في رومانيا  الاشتراكية

    الشبيبة والسياحة والتربية في رومانيا الاشتراكية

    في السادس من مارس آذارعام 1945 قام الحزب الشيوعي الموالي لموسكو بتنصيب حكومة جديدة برئاسة بيترو غروزا كانت مهمتها الأساسية وضع رومانيا في فلك الاتحاد السوفييتي ونشر الإيديولوجية الماركسية اللينينية في جميع شرائح المجتمع الروماني بما فيها الشباب . وما لبث أن شرعت في ترجمة ذلك المشروع السياسي على الأرض .. بين عامي 1945 و1965 ركزت جهود رومانيا على إنعاش الاقتصاد إثر تضرره جراء الحرب العالمية الثانية كما أجبرت رومانيا على دفع تعويضات حرب ما حال دون تطويربعض القطاعات الاقتصادية ومن بينها السياحية . لكن تعافي الاقتصاد ابتداء من منتصف الستينيات ترافق مع انتعاش السياحة ما سمح لمنظمات الشببية المنبثقة عن الحزب الشيوعي بتنظيم أنشطة سياحية للشباب امتزجت فيها الفعاليات العلمية والسياحية والترفيهية مع دورس الإيديولوجية الماركسية اللينينية وفق نموذج أخذه الشيوعيون الرومانيون من زملائهم السوفييت . وقد أطلق على تلك الأنشطة “السياحة الهادفة ” .


    من أهم الأنشطة التي نظمتها منظمات الشبيبة الشيوعية ومن بينها منظمات الطليعة – بعثات الكشافة التي نظمت للمرة الأولى في عام 1969 وسميت “كوتيزاتوري” أي الشجعان على اسم مجلة للأطفال والمراهقين حملت نفس الاسم وصدرت عام1967 . ديانا جورجيسكو معلمة دراسات جنوب شرق أوروبا في جامعة كلية لندن لديها المزيد من التفاصيل حول طريقة نظيم بعثات “الشجعان “” شهدت ستينيات القرن الماضي إصلاحات وتغييرات شتى انعكست في طريقة تنظيم منظمات الطليعة التي مرت هي الأخرى بسلسلة إصلاحلات نجحت إلى حد ما في فصلها – من الناحية المؤسسية على الأقل- عن التظيمات المنبثقة عن منظمة الشبيبة الشيوعية لتصبح منظمة مستقلة لها رئيس ونائب رئيس وجميع أنواع اللجان المختصة بالسياحة والرياضية والفنون والعلوم.”


    سعت السلطات الشيوعية إلى تقديم بعثات “الشجعان” على أنها أنشطة تقليدية وامتداد لحركات الكشافة التي نشطت في الفترة ما بين الحربين العالميتين وأبرزها “كشافة رومانيا”. فقد اقتبس منظرو منظمات الشبيبة الشيوعية شعار بعثات “الشجعان ” من أحد خطابات المؤرخ نيكولاي يورغا في الفترة ما بين الحربين العالميتين بعنوان : “في أهداف حركة الكشافة ” وجاء فيه “إن الهدف من حركة الكشافة أن تجعلك تتجاوز حرف الكتاب لتكتشف الجمال الحقيقي الكامن في الطبيعة ” . وكانت الرحلات الاستكشافية لبعثات “الشجعان ” تنظم في جبال الكاربات وعلى طول مجاري الأنهار وفي دلتا الدانوب . وكان المشاركون في الرحلات الاستكشافية يسكنون في مخيمات ويجربون نمط حياة جديدا وسط الطبيعة . وتكونت بعثات “الشجعان ” من تلاميذ المراحل التعليمية ما قبل الثانوية ومدرسين يساعدون الأطفال على اكتساب معارف جديدة وخبرات حياتية مفيدة وكانت الانشطة اليومية تتضمن- إلى جانب المشاوير الطويلة – دروسا في الثقافة والتربية الوطنية والفولكلور وعلم النبات وعلم الحيوان والجغرافيا والتربية البيئية . كما كان المدرسون يحدثون الأطفال عن العلاقة بين الدولة والمجتمع الاشتراكي. وكان على المشاركين في الرحلات الاستكشافية كتابة ملاحظاتهم وانطباعاتهم يوميا في سجل خاص . ولدى انتهاء الرحلة كانت لجان تحكيم تمنح جوائز لأجمل السجلات وأجمل مجموعات الأشياء المجمعة أثناء الرحلات الاستكشافية:


    “لم تكن المشاركة في بعثات “الشجعان إلزامية ولكن منظمات الطليعة والشبيبة شجعت الأطفال على المشاركة إقامة مختلف الفعاليات لذلك كان اممسؤلون عن البعثات يضعون جداول زمنية للأنشطة والفعاليات المراد القيام بها أثناء الرحلة . وقد حظيت رحلات “الشجعان” بترويج كثيف ما ساهم في زيادة شعبيتها غير أن المشاركة فيها تطلبت جهدا ماليا وجسدياكبيرا إذ كانت الرحلات الاستكشافية تستغرق ما بين ثلاثة إلى أربعة أسابيع وكان لزاما على المشاركين اتباع قواعد صارمة. على سبيل المثال لم يكن مسموحا لهم باستخدام وسائل النقل العام إلا للوصول إلى مكان الانطلاق وكانوا يسيرون على الاقدام لمسافات طويلة ويسكنون في خيم كما كان عليهم تحضير الطعام والحصول على احتياجاتهم الأساسية بأنفسهم .”


    على مدى أكثر من عشرين عاما بلغ عدد المشاركين في بعثات الشجعان نحو خمسمائة ألف ومعظمهم من التلاميذ المنضوين تحت لواء منظمات الطليعة . ديانا جورجيسكو تحدثت مع مشاركين في بعثات الشجعان للتعرف على آرائهم:


    أجريت مقابلة مع رجل شارك في رحلة استكشافية في جبال تشاهلاو في عام 1978.سألته عن آثار تلك الرحلة عليه. فقال إنه ظل يحن ويشتاق لها لفترة طويلة بعد انتهائها كم تحدث عنها مع زملائه في البثعة في كل لقاءاتهم وظلوا يروون لبعضهم البعض نفس القصص والذكريات مرات ومرات طيلة الإجازة الصيفية .أعجبتني أيضا إجابة مدرسة في مدينة ساتو ماري كانت مسوؤلية أثناء إحدى بعثات الشجعان عن فريق مختلط من أطفال رومانيين وذوي أصول مجرية وقالت إن المعلمين كانوا يمارسون مهنتهم بشغف أثناء الرحلات الاستكشافية . صحيح أن دروس التربية الوطنية كانت إلزامية ولكن أحدا لم يتحمس لها كما تحمس للرحلات الاستكشافية كونها تجربة حياتية متميزة في المقام الأول. “بعثات الشجعان” ربما بدت مشروعا سياسيا للوهلة الأولى ولكن بمجرد الانخراط في فعالياتها إدراك قيمتها الحقيقية كان بعدها السياسي يتلاشى من تلقاء نفسه “.


    توقفت بعثات ” الشجعان ” بعد عام 1989 ولكنها لا تزال ماثلة في ذاكرة المشاركين وفي ألوبات الصور والمذكرات والوثائقيات .



  • مساعدات  رومانيا  لبلدان  العالم  الثالث  إبان الحقبة  الشيوعية

    مساعدات رومانيا لبلدان العالم الثالث إبان الحقبة الشيوعية

    انتهت حقبة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية باعتراف الدول المستعمرة باستقلال مستعمراتها السابقة ووضع علاقاتها معها على أسس جديدة . وفي الوقت نفسه أبدت الدول الاشتراكية السابقة استعدادها لدعم البلدان المستقلة الناشئة والمعروفة أيضا بالبلدان النامية أو دول العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وفق مبادئ الإنسانية الجديدة . فقد كانت المساعدات الإنسانية واحدة من أكثر أشكال الدعم انتشارا في سياق العلاقات بين الدول القديمة والدول الناشئة . لكن بتقديمها تلك المساعدات كانت الدول الاشتراكية تتبع مصالحها السياسية والاقتصادية في المناطق المعنية .


    كانت رومانيا الاشتراكية من بين الدول التي أقامت علاقات مع العالم الثالث ابتداء من سبعينيات القرن الماضي في إطار سياسة زعيمها الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو الرامية إلى تطوير العلاقات مع القارة الأفريقية والدول الاشتراكية أو المتعاطفة مع الأنظمة الاشتراكية في آسيا وأيضا مع الحركات الشيوعية في أمريكا اللاتينية.


    المؤرخة ميا جينغا الباحثة في معهد التحقيق في جرائم الشيوعية والمنفى الروماني تشارك في إعداد دراسة حول السياسة الخارجية لرومانيا ما بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي وقالت :


    ” المساعدة الإنسانية التي قدمتها رومانيا لتلك الدول تضمنت كافة الأشكال والآليات المتاحة بما فيها المساعدات الطارئة التي عادة تقدم في حالات الكوراث الطبيعية مثل الجفاف والفيضانات والزلازل وما إلى ذلك. لكن الدعم الذي منحته رومانيا وسائر بلدان الكتلة الاشتراكية وكذلك الدول الغربية للدول النامية لم يقتصر على المساعدات الإنسانية بل تضمن أيضا أشكالا أخرى من المساعدات ومن بينها تلك الموجهة إلى سكان مناطق النزاعات أو مخيمات اللاجئين بالإضافة إلى المساعدات المادية والعسكرية المقدمة لمختلف حركات التحرر وبعض الأحزاب الشيوعية وهي في الواقع الجهات التي خصص لها الجزء الأكبر من المساعدات المالية . كذلك قدمت لتلك الدول منح دراسية للتعليم ما قبل الجامعي والجامعي والتدريب بالإضافة إلى الخبرات المتخصصة والمعدات والدعم لإنجاز مشاريع تنموية.”


    في عام 1979 قدمت رومانيا مساعدات لعدد من البلدان النامية في ثلاث قارات هي بيرو ومارتينيك وجمهورية الدومينيكان ونيكاراغوا والمكسيك و إثيوبيا وبنن والسودان وبوروندي وموزامبيق والسنغال وجمهورية أفريقيا الوسطى وموريتانيا وجمهورية الرأس الأخضر وناميبيا وغينيا بيساو إضافة إلى اليمن ولبنان . لاحظت ميا جينغا أن المساعدات الإنسانية جاءت بالتوازي مع أشكال دعم أخرى كانت تهدف إلى تحقيق بعض المصالح السياسية . على سبيل المثال دعمت رومانيا الاتحاد الشعبي الأفريقي الزيمبابوي وهو جماعة ماركسية لينينية شاركت في الحرب الأهلية في روديسيا بين عامي 1964 و 1979 :


    “اختلفت أنواع المساعدات باختلاف الجهات المستفيدة . على سبيل المثال المساعدات التي قدمت لمنكوبي الكوارث الطبيعية تكونت في المقام الأول من مواد غذائية أساسية وملابس وأدوية بالإضافة إلى مواد طبية. وتنوعت باسمرار حسب الاحتياجات . وقد لفتت انتباهي المساعدات التي قدمتها رومانيا لمقاتلي الاتحاد الشعبي الإفريقي الزبمابوي في عام 1979 وزادت قيمتها عن تسعة ملايين لي – في حين لم يتجاوز متوسط ​​المبلغ المخصص لمساعدة جهات أخرى مائتين وخمسين ألف لي . فالفرق كبير جدا كما تلاحظون “.


    شرحت ميا جينغا كيفية تقديم المساعدات للدول النامية :


    “درست طريقة تنفيذ مشاريع المساعدة الإنسانية تلك: أين بدأت وأين انتهت وهل جاءت بمبادرة من الدولة الرومانية أم أن المستفيد هو الذي طلبها . وفي جميع الحالات — أو على الأقل تلك التي درستها – منحت المساعدات بناء على طلب رسمي مقدم من قبل مسؤول رفيع في الدولة المعنية أو من قبل أحد قياديي الحزب أو الحركة المعنية ربما عقب اجتماع مع نيكولاي تشوسيسكو.وكان قسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية لـلحزب الشيوعي الروماني يقوم بإعداد مذكرة يشرح فيها أسباب موافقته أو رفضه لطلب المساعدة . وكانت المذكرة تتضمن نبذة عن تاريخ ​​المساعدات الإنسانية المقدمة لتلك الجهة والمبالغ المخصصة لها بشكل سنوي فضلا عن تقييم كيفية استخدام تلك المساعدات مع ذكر المشاكل الدبلوماسية التي قد تواجهها رومانيا بسبب تقديمها . فقد حدث مرارا أن توافق رومانيا على تقديم مساعدات لجهة معينة لتتراجع فيما بعد بسبب الظروف السيالسية آنذاك .على كل – كانت الكلمة الفصل لنيكولاي تشاوتشيسكو . واللافت أيضا أن اللجنة المركزية وافقت على جميع طلبات المساعدات التي قدمتها فيتنام بصرف النظر عن قيمتها . لكن ذات مرة رفض نيكولاي تشاوسيسكو نفسه مساعدة ففيتنام قائلا إن رومانيا تساعد هذه الدولة منذ عشر سنوات فالوقت قد حان ليبدأ الفيتناميون بالعمل “.


    نجحت برامج المساعدة تارة وفشلت تارة أخرى بحسب ما تكشفه الوثائق الموجودة في الأرشيف . وكانت إفريقيا القارة المفضلة لدى رومانيا الاشتراكية في إطار سياستها الخارجية والقارة التي زارها تشاوشيسكو مرات ومرات .


  • مساعدات  رومانيا  لبلدان  العالم  الثالث  إبان الحقبة  الشيوعية

    مساعدات رومانيا لبلدان العالم الثالث إبان الحقبة الشيوعية

    انتهت حقبة الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية باعتراف الدول المستعمرة باستقلال مستعمراتها السابقة ووضع علاقاتها معها على أسس جديدة . وفي الوقت نفسه أبدت الدول الاشتراكية السابقة استعدادها لدعم البلدان المستقلة الناشئة والمعروفة أيضا بالبلدان النامية أو دول العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وفق مبادئ الإنسانية الجديدة . فقد كانت المساعدات الإنسانية واحدة من أكثر أشكال الدعم انتشارا في سياق العلاقات بين الدول القديمة والدول الناشئة . لكن بتقديمها تلك المساعدات كانت الدول الاشتراكية تتبع مصالحها السياسية والاقتصادية في المناطق المعنية .


    كانت رومانيا الاشتراكية من بين الدول التي أقامت علاقات مع العالم الثالث ابتداء من سبعينيات القرن الماضي في إطار سياسة زعيمها الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو الرامية إلى تطوير العلاقات مع القارة الأفريقية والدول الاشتراكية أو المتعاطفة مع الأنظمة الاشتراكية في آسيا وأيضا مع الحركات الشيوعية في أمريكا اللاتينية.


    المؤرخة ميا جينغا الباحثة في معهد التحقيق في جرائم الشيوعية والمنفى الروماني تشارك في إعداد دراسة حول السياسة الخارجية لرومانيا ما بين الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي وقالت :


    ” المساعدة الإنسانية التي قدمتها رومانيا لتلك الدول تضمنت كافة الأشكال والآليات المتاحة بما فيها المساعدات الطارئة التي عادة تقدم في حالات الكوراث الطبيعية مثل الجفاف والفيضانات والزلازل وما إلى ذلك. لكن الدعم الذي منحته رومانيا وسائر بلدان الكتلة الاشتراكية وكذلك الدول الغربية للدول النامية لم يقتصر على المساعدات الإنسانية بل تضمن أيضا أشكالا أخرى من المساعدات ومن بينها تلك الموجهة إلى سكان مناطق النزاعات أو مخيمات اللاجئين بالإضافة إلى المساعدات المادية والعسكرية المقدمة لمختلف حركات التحرر وبعض الأحزاب الشيوعية وهي في الواقع الجهات التي خصص لها الجزء الأكبر من المساعدات المالية . كذلك قدمت لتلك الدول منح دراسية للتعليم ما قبل الجامعي والجامعي والتدريب بالإضافة إلى الخبرات المتخصصة والمعدات والدعم لإنجاز مشاريع تنموية.”


    في عام 1979 قدمت رومانيا مساعدات لعدد من البلدان النامية في ثلاث قارات هي بيرو ومارتينيك وجمهورية الدومينيكان ونيكاراغوا والمكسيك و إثيوبيا وبنن والسودان وبوروندي وموزامبيق والسنغال وجمهورية أفريقيا الوسطى وموريتانيا وجمهورية الرأس الأخضر وناميبيا وغينيا بيساو إضافة إلى اليمن ولبنان . لاحظت ميا جينغا أن المساعدات الإنسانية جاءت بالتوازي مع أشكال دعم أخرى كانت تهدف إلى تحقيق بعض المصالح السياسية . على سبيل المثال دعمت رومانيا الاتحاد الشعبي الأفريقي الزيمبابوي وهو جماعة ماركسية لينينية شاركت في الحرب الأهلية في روديسيا بين عامي 1964 و 1979 :


    “اختلفت أنواع المساعدات باختلاف الجهات المستفيدة . على سبيل المثال المساعدات التي قدمت لمنكوبي الكوارث الطبيعية تكونت في المقام الأول من مواد غذائية أساسية وملابس وأدوية بالإضافة إلى مواد طبية. وتنوعت باسمرار حسب الاحتياجات . وقد لفتت انتباهي المساعدات التي قدمتها رومانيا لمقاتلي الاتحاد الشعبي الإفريقي الزبمابوي في عام 1979 وزادت قيمتها عن تسعة ملايين لي – في حين لم يتجاوز متوسط ​​المبلغ المخصص لمساعدة جهات أخرى مائتين وخمسين ألف لي . فالفرق كبير جدا كما تلاحظون “.


    شرحت ميا جينغا كيفية تقديم المساعدات للدول النامية :


    “درست طريقة تنفيذ مشاريع المساعدة الإنسانية تلك: أين بدأت وأين انتهت وهل جاءت بمبادرة من الدولة الرومانية أم أن المستفيد هو الذي طلبها . وفي جميع الحالات — أو على الأقل تلك التي درستها – منحت المساعدات بناء على طلب رسمي مقدم من قبل مسؤول رفيع في الدولة المعنية أو من قبل أحد قياديي الحزب أو الحركة المعنية ربما عقب اجتماع مع نيكولاي تشوسيسكو.وكان قسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية لـلحزب الشيوعي الروماني يقوم بإعداد مذكرة يشرح فيها أسباب موافقته أو رفضه لطلب المساعدة . وكانت المذكرة تتضمن نبذة عن تاريخ ​​المساعدات الإنسانية المقدمة لتلك الجهة والمبالغ المخصصة لها بشكل سنوي فضلا عن تقييم كيفية استخدام تلك المساعدات مع ذكر المشاكل الدبلوماسية التي قد تواجهها رومانيا بسبب تقديمها . فقد حدث مرارا أن توافق رومانيا على تقديم مساعدات لجهة معينة لتتراجع فيما بعد بسبب الظروف السيالسية آنذاك .على كل – كانت الكلمة الفصل لنيكولاي تشاوتشيسكو . واللافت أيضا أن اللجنة المركزية وافقت على جميع طلبات المساعدات التي قدمتها فيتنام بصرف النظر عن قيمتها . لكن ذات مرة رفض نيكولاي تشاوسيسكو نفسه مساعدة ففيتنام قائلا إن رومانيا تساعد هذه الدولة منذ عشر سنوات فالوقت قد حان ليبدأ الفيتناميون بالعمل “.


    نجحت برامج المساعدة تارة وفشلت تارة أخرى بحسب ما تكشفه الوثائق الموجودة في الأرشيف . وكانت إفريقيا القارة المفضلة لدى رومانيا الاشتراكية في إطار سياستها الخارجية والقارة التي زارها تشاوشيسكو مرات ومرات .


  • دستور  عام  1923

    دستور عام 1923

    بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بانتصار قوى الوفاق الثلاثي التي انضمت إليها رومانيا في عام 1916 على قوى المركز اتحدت الأراضي ذات الأغلبية الرومانية التي كانت تخضع لسيطرة روسيا القيصرية والإمبراطورية النمساوية المجرية مع مملكة رومانيا في الأول من ديسمبر كانون الأول عام 1918 .. عملية التوحيد جرت على مرحلتين : ففي مارس آذار 1918 اتحدت مع رومانيا منطقة باسرابيا أو ملدوفا الشرقية الواقعة ين نهري بروت ونيسترو والتي كانت روسيا القيصرية قد ضمتها في عام 1812 واكتملت المرحلة الثانية من عملية التوحيد في الأشهر التالية باتحاد كل من بانات وبوكوفينا وترانسيلفانيا مع رومانيا. الدولة الرومانية الموحدة التي أقيمت آنذاك وأطلق عليها مملكة رومانيا الكبرى اختلفت عن سابقتها في جوانب عديدة ما استدعى إقرار دستور جديد . وكان الدستور الساري المفعول في عام 1918 قد أقر في عام 1866 بعد وقت قصير من اعتلاء كارول دي هوهنزولرن سجمارينجين العرش وكان الأول ضمن سلسلة السبعة دساتير في تاريخ الدولة الرومانية الحديثة . فقد شهد عام 1923 إقرار دستور جديد مواكبة للتطورات الجديدة ما بعد التوحيد .وفي العهود التالية تم إقرار ما لا يقل عن خمسة دساتير أخرى كان كل منها انعكاسة للنظام السياسي الذي كان يحكم البلاد وقت تبنيه .. ففي عام 1938 انقلب الملك كارول الثاني على دستور عام 1923 وحل البرلمان وفرض نظام حكم سلطوي . الدساتير الثلاثة التالية أقرها النظام الشيوعي بين عامي 1948 و1965. أما أحدث دستور فقد تم إقراره في عام 1991 بعد الإطاحة بالنظام الشيوعي وكرس استعادة القيم الديمقراطية ولا يزال ساري المفعول.


    دستور عام 1923 الذي نشر في الجريدة الرسمية في التاسع والعشرين من مارس آذار يعد إنجازا تشريعيا منقطع النظير حققه الفكر الدستوري في رومانيا في السياق التاريخي ما بعد الحرب العالمية الأولى . ولإحياء ذكرى مرور مائة عام على تبني دستور عام 1923 أقامت الأكاديمية الرومانية والسفارة الإيطالية في بوخارست حفلا رسميا حضره رئيس الأكاديمية الرومانية المؤرخ إيوان أوريل بوب الذي تحدث عن اللحظات الرئيسية في التاريخ الدستوري لرومانيا مشيرا إلى دور أحداث القرن التاسع في التمهيد لإقامة الدولة الرومانية الموحدة:


    “كان لرومانيا دستور منذ عام 1866 لكنه لم يعد يعكس الواقع الجديد ما بعد الحرب ولم يواكب التحولات التي شهدتها رومانيا في مطلع القرن العشرين .. قال البعض أن الرومانيين وضعوا أول دستور لهم بتأخر كبير لكن الحقيقة أن إقرار الدستور جاء في الوقت المناسب وبالتزامن مع معظم البلدان الأوروبية الحديثة .”


    القرن التاسع عشر شهد استبدال الأعراف والقيم القديمة بأخرى جديدة. إيوان أوريل بوب:


    “الدستور هو القانون الأساسي لأي دولة لكني أود التوضيح أننا نتحدث فقط عن الدولة الحديثة لأن الدولة القروسطية لم يكن لديها دستور أصلا . القوانين العضوية التي أقرت في ولاتي مولدوفا وفالاهيا الرومانيتين بين عامي 1831 و1832 وأيضا في إمارة ترانسلفانيا الرومانية في نهاية القرن السابع عشر لم تكن دساتير بمعنى الكلمة رغم وظيفتها التأسيسية .إنها تشريعات فرضت على سكان تلك المناطق من قبل السلطات الأجنبية التي كانت تسيطر عليها ولم تكن ثمرة عمل سطلة تشريعية منتخبة ديمقراطيا من قبل الشعب الروماني في حين أن دستور عام 1866 كان أول دستور حديث في تاريخ رومانيا كونه مستوحى من الدستور البلجيكي مع تعديله وتكييفه مع وقائع الدولة الجديدة ونظام الملكية الدستورية “.


    انتهى القرن التاسع عشر بالفعل في عشرينيات القرن الماضي بعد الحرب العالمية الأولى التي دارت رحاها بين عامي 1914و1918.. إيوان أوريل بوب :


    “في عام 1918 تضاعف عدد سكان رومانيا وزادت مساحة أراضيها ثلاثة أضعاف تقريبا ما استدعى توحيد القوانين ضمن دستور جديد . فكان دستور عام 1923 ديمقراطيا وفق معايير الديمقراطية في دول جنوب شرق أوروبا آنذاك وقضى بأن رومانيا دولة وطنية موحدة غير قابلة للتجزئة وأراضيها غير قابلة للتصرف. وقد أطلق عليه “دستور التوحيد”


    راح دستور عام 1923 ضحية للنظامين الفاشي والشيوعي . ففي عام 1938 في عهد العاهل كارول الثاني قضت عليه الأفكار الفاشية. ثم سقط مرة آخرى في عام 1948 تحت ضربات النظام الشيوعي:


    ” العمل بدستور عام 1923 استمر لأقل من عشرين عاما وتحديدا حتى عام 1938 عندما أقر الملك كارول الثاني دستورا جديدا عقب حل البرلمان وفرض سيطرته على الدولة .وبعد الحرب العالمية الثانية أعيد اعتماد دستور عام 1923 والعمل به إلى حين استيلاء النظام الشيوعي على السلطة كاملة في عام 1947 . بعد الإطاحة بالنظام الشيوعي تم في عام 1991 إقرار الدستور الحالي الذي يحتفظ ببعض من نصوص دستور عام 1923 مع تعديلات عديدة .”


  • وضع المعاقين والأرامل والأيتام  بعد  الحرب العالمية الأولى

    وضع المعاقين والأرامل والأيتام بعد الحرب العالمية الأولى

    خرجت رومانيا منتصرة من الحرب العالمية الأولى فتضاعفت مساحة أراضيها وعدد سكانها. لكنها دفعت الثمن غاليا للانتصار متمثلا في حصيلة الحرب من القتلى والجرحى والتي أضيفت إليها بعد الحرب حصيلة أخرى من المعاقيين والأيتام والأرامل والمقدر عددهم بحوالي اثني عشر بالمائة من إجمالي سكان رومانيا بعد إقامة الدولة الوطنية الموحدة عام 1918 . وسرعان ما شرعت الدولة في إقرار تشريعات لضبط أوضاع معاقي الحرب والأرامل والأيتام لتساهم قدر المستطاع في تعويض الأضرار الجسيمة التي تكبدوها بسبب الحرب .


    ماريا بوكور أستاذة تاريخ النوع الاجتماعي في جامعة إنديانا بلومنجتون بالولايات المتحدة الأمريكية ومؤلفة أبحاث في والنوع الاجتماعي والتحديث والمواطنة قالت إن وجود معاقي الحرب والأرامل والأيتام أدى إلى تغيير مفهوم المواطنة في الدولة الرومانية: “القرارات التي اتخذتها المؤسسات الجديدة أو المؤسسات ذات الصلاحيات الجديدة بشأن المحاربين القدامى والمعاقين الأرامل والأيتام ساهمت في تغيير الدولة الرومانية بشكل جذري لا سيما بعد حصول شريحة كبيرة من سكان رومانيا على حقوق المواطنة بعد عام 1919. إنها القوى التي غيرت موقف المجتمع من المواطنة وكما غيرت الخطاب العام شكلا ومضمونا ما أدى إلى ظهور توقعات جديدة لدى المواطنين الرومانيين فضلا عن مسؤوليات جديدة لمؤسسات الدولة. وقد خلقت إنجازات الدولة في مجال المواطنة دينامية جديدة في الفضاء السياسي والمدني “.


    لا يزال عدد معاقي الحرب والأرامل والأيتام غير معروف بشكل دقيق حتى اليوم :


    ” مساحة أراضي الدولة تضاعفت تقريبا بعد الحرب عقب توحيد جميع المناطق الرومانية ضمن دولة موحدة وبذلك اندمج المحاربون القدامى في الأراضي التي عادت إلى رومانيا بموجب اتفاقيات السلام في مجتمع المحاربين القدامى الرومانيين . ولكن عددهم لم يكن معروفا لأن مؤسسات الدول التي كانت تسيطر على تلك المناطق قبل الحرب لم تقم بتعداد المحاربين القدامى والمعاقين والأرامل والأيتام . فذا فإن الأرقام المتوفرة اليوم هي في الواقع مجرد تقديرات تعود إلى أوائل عشرينيات القرن الماضي. شخصيا اعتقد أن عدد المحاربين القدامى في رومانيا بلغ نحو مليون ونصف المليون وكان هناك أكثر من مائتي الف من المعاقين وفقا لتعريف الإعاقة آنذاك يضاف إليهم أكثر من سبعمائة ألف من الأيتام والأرامل “.


    كيف تعاملت رومانيا مع معاقي الحرب والأرامل والأيتام ؟ ماريا بوكور تقدر بأن الإجراءات التعويضية التي اتخذتها الدولة بحقهم كانت إيجابية :


    “لا بد من القول بأن رومانيا تفوقت في كرمها وحسن نيتها تجاه المعاقين والأرامل والأيتام على جميع الدول التي قاتلت في الحرب العالمية الأولى. بالإضافة إلى منحهم معاشات تقاعدية، نص القانون الروماني على منحهم حق التعليم المجاني في مؤسسات الدولة والرعاية الطبية المجانية والسفر بالقطار مجانا والحصول على الحطب مجانا فضلا عن حق الأولوية في الحصول على الأرض بعد الإصلاح الزراعي. بالإضافة إلى ذلك منح المحاربون القدامى حق الأولوية في القيام بأعمال كانت تعتبر حكرا على الدولة مثل الأكشاك التجارية في محطات القطار فضلا عن منحهم الأولوية في الوصول إلى بعض الوظائف الحكومية .على سبيل المثال كان المحاربون القدامى والأيتام يمثلون غالبية موظفي المكاتب التي كانت تعنى بشؤون المحاربين القدامى والمعاقين والأرامل والايتام . فكل هذه المزايا مجتمعة تدل على تفوق الدولة الرومانية في حسن المعاملة والكرم على دول آخرى ومن بينها فرنسا على سبيل المثال التي كانت رومانيا تعتبرها نوذجا يحتذى به “.


    أقرت الدولة الرومانية “قانون الامتنان” الذي كان يضبط أوضاع المحاربين القدامى والمعاقين والأرامل والأيتام. ولم تميز الدولة الرومانية بين مواطنيها القدامى والجدد بهذا الصدد :


    ” امتنان الأمة لم يكن موجها إلى الجنود الذين قاتلوا في صفوف الجيش الروماني داخل حدود البلاد فحسب بل اتجه أيضا إلى الجنود الذين قاتلوا ضد رومانيا بدليل أنهم منحوا نفس الحقوق شريطة الحصول على الجنسية الرومانية والإعلان عن الولاء للدولة الرومانية. أود أن أوضح أننا لا نجد مثل هذه السياسات إزاء المحاربين القادمى والمعاقين والأرامل والأيتام في يوغوسلافيا على سبيل المثال حيث لم يتمتع الكروات بنفس الحقوق التي تمتع بها الصرب “.


    تقول ماريا بوكر أن هناك تفسيرات أخرى لحسن معاملة الدولة الرومانية للأعداء السابقين:


    “يمكن قراءة كرم الدولة الرومانية تجاههم من منظور الأهداف البراغماتية من جهة ومن منظور الطموحات السياسية من جهة أخرى . فقد حارب العديد من الاثنيين الرومانيين في الجيش النمساوي المجري ضد رومانيا في الحرب العالمية الأولى ليس عن قناعة إنما عن اضطرار.. الدولة الرومانية لو استثنت أولئك المحاربين من الإجراءات التعويضية لكانت لتحدث حالة من الانقسام الراديكالي بين المناطق الجديدة والقديمة -الأمر الذي أدركه المسؤولون السياسيون فتعاملوا معه ببراغماتية . وهدف براغماتي آخر ارتبط بمعاهدة الأقليات العرقية التي أدركت رومانيا ضرورة الالتزام بها . أما من منظور الطموحات السياسية فأعتقد أن قانون معاقي الحرب والأرامل والأيتام وما نص عليه من إجراءات تعويضية وحقوق ومزايا كان الأداة التي استخدمها البرلمان الروماني من أجل التأسيس لنموذج المواطنة الملتزمة وثيقة الارتباط بمؤسسات الدولة “.

  • صفحات من تاريخ الصحافة الرومانية

    صفحات من تاريخ الصحافة الرومانية

    صدرت أولى الصحف اليومية في رومانيا قبل مائتي عام أواخر عشرينينات القرن التاسع عشر ..ولكن الصحافة الكتوبة شهدت أول تحول نوعي مع صدور صحيفة كوريير دي مولدافي أي مراسل مولدوفا باللغة الفرنسية في مدينة ياش عام 1790 لمحتواها المتنوع بين الأنباء المحلية و الخارجية ومختلف المواد الصحفية . مكتبة الأكاديمية الرومانية في بوخارست أقامت مؤخرا معرضا بعنوان الصحافة الرومانية بين التقليد والحداثة يسرد تاريخ الصحافة الرومانية منذ بداياتها إلى اليوم . ويجدر التذكير بأن مكتبة الأكاديمية تملك أكبر مجموعة من الصحف واليومية والدوريات التي صدرت في رومانيا أو وصلت من الخارج فيها ما لا يقل عن أربعة عشر مليون صحيفة وتمثل الصحف يومية والمطبوعات الدورية أكثر من نصفها وتقدر قيمة المجموعة بثلاثة مليارات يورو . مسؤولة المعرض دانييلا ستانتشو تحدث في حفل افتتاح المعرض عن دور الصحافة في توفير مصادر تاريخية للباحثين :


    “عندما نتحدث عن الصحافة بصورة عامة لا نقصد الصحف والمجلات فحسب بل أيضا المطبوعات الدورية فضلا عن المجلات العلمية باختلاف اختصاصاتها وحتى المنشورات التي تتضمن مداخلات المشاركين في المؤتمرات . هذا التنوع الواسع يجعل من الإرث الصحافي لأي أمة تاريخا مكتوبا ربما هو الأكثر اكتمالا لأنه يكتب في قلب الأحداث وقت وقوعها .. التقارير الصحفية هي في الحقيقة مرايا تعكس الأحداث ببالغ الدقة موفرة للقرأء معلومات قيمة أولا بأول .. كما أن إفادات من عاصورا الأحداث الكبرى في تاريخ البشرية مفيدة أيضا لما تتضمنه من تفاصيل وملاحظات وجيهة ربما فاتت على المؤرخين الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تقييمها فيما بعد .أما الربورتاجات الصحفية فتنقل للقارئ مشاهد من الحياة اليومية وفي الوقت نفسه تسلط الضوء على العقليات والعادات والقيم والتيارات الفكرية التي سادت المجتمعات في هذه الحقبة التاريخية أو تلك .كل هذا يضعنا في صورة واضحة عن مجتمعات ولى زمنها منذ عقود أو قرون.”


    ظهور الصحافة متربط بتطور التكنولوجيا وكان اختراع المطبعة لحظة مفصلية في هذا المضمار :”اختراع المطبعة أتاح ظهور الصحافة ونشر المعلومة بسرعة.. لكن الجدير بالذكر ان أولى الصحف المكتوبة طبعت على شكل صفحات متفرقة وكانت مصدر المعلومات الوحيد للسكان. نماذج من تلك الصحفات المتفرقة موجودة في المعرض إلى جانب الصحف والمجلات التي كانت تصدر في ولايتي مودلوفا وفالاهيا في القرن التاسع عشر.إحدى أكثر الصفحات المتفرقة شعبية حملت تحت عنوان مراسل بوخارست وسميت فيما بعد المراسل الروماني وكانت الوسيلة الرئيسة لنشر أفكار ثورة عام 1848 وبرنامج الثوار الرومانيين الذي يعتبره المؤرخون أول دستور حديث في تاريخ رومانيا . نعرض أيضا الصفحة المتفرقة التي صدرت بمناسبة تطلع تأسيس مطبعة مطرانية مولدوفا عام 1859 وأخرى تحتوي إلى كلمة الأمير ألكساندروا يوان كوزا أمام الجمعية الانتخابية عام 1860 إضافة إلى الصفحة المتفرقة التي طبع عليها نداء الملك كارول الأول إلى الجيش الروماني بعبور الدانوب في حرب الاستقلال عام1877.”


    أما عن الصحف اليومية الرئيسية التي يمكن مشاهدتها في المعرض فقالت مسؤولة المعرض : “نعرض نسخا مما سمي بصحافة سارندار في إشارة إلى اسم الشارع الذي كان يحتضن مكاتب هيئات تحريرها في بوخارست.وأبرزها صحيفة أدريفارول أي الحقيقة التي صدر أول عدد منها في عام 1888 وكذلك صحيفة ديمينياتسا أي الصباح التي تعود بداياتها إلى عام 1902 .. وأود الإشارة إلى أن صحيفة أديفارول نشرت للمرة الأولى في تاريخ الصحافة الرومانية برقيات خارجية كانت صلتها بشكل مباشر وكانت أول صحيفة جعلت من رسوم الكاريكاتير زاوية ثابتة وأول مؤسسة إلإعلامية امتلكت مقرا خاصا بها ودار نشر ومكتبة ومطعما للموظفين وصدرت من عدد قياسي من النسخ و دفعت للحصفيين والموظفين رواتب جيدة وآمنة .. نعرض أيضا نسخا من مجلة المتحف الوطني التي صدرت في عام 1836 وكانت أول صحيفة في رومانيا خصصت زاوية ثابتة للنشرة الجوية . كما أود الإشارة إلى المجلة الأسبوعية الساخرة التي قام الكاتب الساخر الشهير يون لوكا كارجيالي بتحريرها ونشرها في عام 1877 تحت عنوان “الديك ” والتي تمتعت بشعبية كبيرة لدى سكان بوخارست فكان كاراجيالي يتناول أهم الأحداث السياسية الاجتماعية بأسلوب السخرية و الاستفزاء وخصص زاوية عنوانها غوغوش لتعليقاته الوجيهة وانتقاداته اللاذعة للسياسة والساسة التي كتبها أيبضا بأسلوب الطرفة والسخرية . مع العلم أن أن كلمة “غوغوش” باللغة الرومانية هي اسم حلاوة مصنوعة من العجين المقلي بالزيت ولكنها تستخدم مجازا للإشارة إلى الأكاذيب والأحاديث الفارغة . “

  • حي  أورانوس في بوخارست

    حي أورانوس في بوخارست

    المنطقة المترامية الأطراف التي تحتضن مقار العديد من المؤسسات العامة فضلا بما فيها قص البرلمان المطل على ساحة الدستور الكبيرة ظهرت على خريطة بوخارست في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وكانت معروفة حتى ذلك الحين بحي أورانوس . كان أحد أجمل الأحياء القديمة في العاصمة الرومانية واحتضن الكثير من المباني التراثية .ومع ذلك أصبح حي أورانوس أثرا بعد عين بسبب سياسة التخطيط العمراني التي أطلقها الزعيم الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو في عام 1977 سعيا لتحقيق طموحه الكبير بإنشاء ما سماه بالمركز السياسي والإداري الجديد للبلاد . فكان حي اورانوس أحد الأحياء التارييخية التي سوتها البلدوزيرات بالأرض لإفساح المجال لمباني المركز السياسي والإداري الجديد .


    المؤرخة سبيرانتسا دياكونيسكو عملت كباحثة في مكتب التراث الثقافي لمدينة بوخارست وشاهدت بأم تحويل المباني التراثية في حي أورانوس إلى ركام .في عام 1997 أجرى مركز التاريخ المروي التابع للإذاعة الرومانية مقابلة مع السيدة دياكونيسكو:


    “حي أورانوس كان واحدا من الأحياء التاريخية القديمة في العاصمة. لذا فقد ارتأى خبراء متحف بوخارست أنه لا بد لهم من توثيق المباني التراثية في الحي قبل بدء عمليات الهدم لوضع قوائم تساعدهم فيما بعد على تحديد ما دمر من شوارعه ومنازله. ولم تقتصر عملية التوثيق على حي أورانوس بل شملت جميع المناطق والأحياء التي هدمت آنذاك في إطار سياسة التخطيط العمراني .كما أن القوائم التي وضعها خبراء المتحف تضمنت إلى جانب المنازل المرشحة للهدم إحصاءات حول سكانها وبيانات حول أوضاعهم الاجتماعية والمهنية . ولا تزال تلك الوثائق والقوائم في حيازة متحف بوخارست.”


    أدرك الخبراء حجم الدمار الذي كان ليلحق بالتراث المعماري للعاصمة إثر تنفيذ سياسة التخطيط العمراني وبذلوا قصارى جهدهم لإنقاذ ما أمكن إنقاذه. وقد انضم موظفو مكتب التراث الثقافي لمدينة بوخارست إلى تلك الجهود:


    قمنا بتفقد المنازل المدرجة في قوائم عمليات الهدم لتحديد المكونات التي تستحق الإنقاذ لقيمتها التراثية العالية . على سبيل المثال كانت لبعض المنازل أبواب ضخمة من الخشب المنقوش أو أبواب داخلية من البلور أو نوافذ مرسومة أو مقابض أبواب جميلة من النحاص . قمنا بإعداد قوائم بكل المكونات والعناصر القيمة تلك لكننا لم نتمكن من تفقد جميع المنازل لأن عمليات الهدم كانت تسير بسرعة مذهلة . كانوا يدلنونا على الشوارع التي يريدون هدمها في الفترة المقبلة ويطالبوننا بإعداد القوائم بسرعة لكنهم كانوا يسبقوننا دائما ويبدئون بهدمها في صباح اليوم التالي أو في غضون يومين على الأكثر.”


    سرعة تنفيذ عمليات الهدم في حي أورانوس حالت دون إنقاذ المكونات القيمة المسجلة في القوائم :


    ” زرت منازل جميلة جدا ورأيت فيها مكونات رائعة كالنوافذ المرسومة والأبواب الجميلة المنقوشة وأخرى من البلور فضلا عن مرايا رائعة وعناصر زخرفية متميزة سجلتها في القوائم ..كنت أزور عدة منازل في اليوم على أن أعود في اليوم التالي لمواصلة الزيارات . وبمجرد عودتي إلى الحي في اليوم التالي كنت ألاحظ أن المنازل التي زرتها في اليوم السابق قد هدمت وأن الأبواب المنقوشة والنوافذ المرسومة كانت ملقاة فوق أكوام من الركام . حينها أدركت أن السلطات طالبتنا بإعداد تلك القوائم لذر الرمال في العيون. “


    بعد عام 1989 ألقي اللوم على الديكاتور نيكولاي تشاوشيسكو لهدم حي أورانوس التاريخي . مما لا شك فيه أنه كان المسؤول الرئيس عن الدمار الذي لحق بالعاصمة أثناء تطبيق سياسة التخطيط العمراني ولكنه لم يكن المسؤول الوحيد برأي المؤرخة سبيرانتسا دياكونيسكو :


    “لم يكن زعيم الدولة المذنب الوحيد فيما حصل فشاوشيسكو وإن كنا نعتبره رجلا بدائيا كان أدهى من أن يوقع على قرارات الهدم قبل تنفيذ العمليات بالتالي كان يوقعها بعد تنفيذها فقط . الشيء نفسه انطبق على قرارات إنقاذ المعالم التاريخية التي كان يوقعها كذلك بعد تنفيذ العمليات . في الواقع كانت قرارات الهدم تعتمد من قبل مسؤولين آخرين كانوا ينصاعون لقرارات الزعيم بلا كلل إما خشية العقاب أو أرضاء للقيادة العليا.”


  • إضراب  عمال السكك الحديدية  في فبراير شباط عام   1933

    إضراب عمال السكك الحديدية في فبراير شباط عام 1933

    أسواء الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين والمعروفة بالكساد الكبير عصفت بالعالم بين عامي 1923 و 1933 وكانت آثارها حادة وقاسية لاسيما على الأوضاع المعيشية التي تردت بشكل كبير في معظم بلدان العالم مهيئة الأجواء لاضطرابات اجتماعية خطيرة ومظارهات ومسيرات احتجاجية عارمة . تداعيات الكساد الكبير طالت أيضا رومانيا حيث اندلعت احتجاجات مناهضة للإجراءات التقشفية التي اتخذتها السلطات لمواجهة الأزمة ومن بينها تقليص رواتب العمال والموظفين فضلا عن ارتفاع الأسعار . وكان إضراب عمال المناجم في وادي جيو عام 1929 أكثر المظاهرات دموية إبان الأزمة إذ قتل أثناءه 22 من المتظاهرين. وفي فبراير شباط عام 1933أعلن عمال ورشة السكك الحديدية في بوخارست إضرابا عن العمل إثر فشل المفاوضات بين الإدارة والنقابات . سير الأحداث يكشف أن الإضراب جرى على مرحلتين بدأت أولاهما في الحادي والثلاثين من يناير كانون الثاني بمفاوضات بين نقابات عمال السكك الحديدية والإدارة وانتهت في الثاني من فبراير شباط بموافقة الإدارة على تلبية بعض من مطالب العمال وأهمها زيادة الرواتب . أما في المرحلة الثانية فقد تولت النقابة الخاضعة لسيطرة الشيوعيين ومنظمة الشيوعية الدولية تمثيل العمال في المفاوضات وسرعان ما تقدمت للإدارة بمطالب سياسية في مسعى منها لاستغلال الفرصة السانحة للتحريض وتأجيج اضطرابات اجتماعية وزعزعة الاستقرار . مطالب النقابة الشيوعية أدت إلى فشل المفاوضات وتراجع الإدارة عن تعهداتها السابقة واعتصام 4000 من العمال في معمل الورشة بتخريض من النقابة الشيوعية ما دفع الحكومة للتدخل وإعطاء الجيش أموار بإطلاق النار على المضربين. وقد سقط برصاص الجيش 7 منهم وأصيب 15 آخرون واعتقل أكثر من 100 من المضربين ..


    استغل النظام الشيوعي الذي تولى السلطة في عام 1945 إضراب عمال السكك الحديدية لإغراض دعائية متذرعا بأن الزعيم الشيوعي غورغي غورغيو ديج الذي كان يعمل في ورشة السكك الحديدية وقت إطلاق الإضراب وكان أحد أنشط المحرضين أثناء الاحتاجاجت قد سجن بسبب مشاركته في الإضراب. لكن بعد عام 1989 كشفت التحريات النقاب عن حقيقة مختلفة تماما .في عام 1998 أجرى مركز التاريخ المروي التابع للإذاعة الرومانية مقابلة مع المهندس كونستنتين نيغريا الذي كان في عام 1927 يعمل في ورشة السكك الحديدية ببوخارست.وتذكر مظاهرات الاحتجاج التي شارك فيها مع زملائه في عام 1931 :


    “في عام 1931 وعلى خلفية الكساد الكبير أبلغتنا إدارة الورشة بنيتها لتخفيض الرواتب وعليه قررنا إطلاق إضراب عن العمل في التاسع والعشرين من يناير عام 1931 احتجاجا على الإجراءات التقشفية لا سيما وأن الإدارة كانت قد بدأت بتحفيض الرواتب شيء ما . خرجنا من المعمل في الساعة الرابعة متجهين إلى جسر غرانت ومنه إلى الورشة مرددين هتافات رافضة لتخفيض الرواتب . كانت ترافقنا كتيبة من رجال الدرك . ولدى وصولنا على عتبة الجسر أخذوا يطلقون النار علينا فسقط اثنان من زملائنا قتيلين . “


    بعد سنتين على ذلك الإضراب قرر العمال تغيير طريقة تنظيم الاحتجاجات لجعل صوتهم مسموعا بشكل أفضل:


    “قررنا تنظيم مظاهرات الاجتجاج على تخفيض الرواتب ليس في الشارع كما في الإضراب السابق بل في الورشة بإطلاق صفارة الإنذار مرة كل نصف ساعة . كما قررنا الخروج من الورشة رغم البرد الشتوي القارس لتنظيم وقفة احتجاجية في الفناء حيث كانت الإدارة بصدد تنظيم حديقة صغيرة وكانت قد جلبت إلى الموقع كميات كبيرة من الرمل. أقمنا حواجز من الخشب وأشعلنا النيران في الحاويات لندفئ أنفسنا.”


    تبنى بعض العمال أثناء الإضراب مواقف راديكالية فيما أعرب آخرون عن مخاوفهم على مصيرهم في حال أقدمت الإدارة على تسريحهم بدافع الانتقام:


    “مع حلول الليل بدا بعض المضربين مترددين في مواصلة الإضراب . فقال أحدهم أن الإدارة ستسرحنا للانتقام منها وسنخسر مصدر رزقنا الوحيد . في ذلك اليوم أطلقنا صفارة الإنذار لآخر مرة في الساعة الخامسة مساء وفي السادسة إلا ربع بدأ الجنود بإطلاق النار علينا وأردوا ستة منا قتلى.”


  • الإعلامي ميرتشا كارب في عيد ميلاده المائة

    ميرتشا كارب هو إعلامي روماني كان واحدا من أبرز الصحفيين في القسم الروماني في إذاعة أوروبا الحرة حيث ساهم في ذياع صيتها بشكل ملحوظ .و في الثامن والعشرين من يناير كانون الثاني من هذا العام تجاوز ميترشا كارب عتبة المائة عام من العمر . كان في قلب الاضطرابات والصراعات المحتدمة التي جعلت من القرن العشرين حقبة عصيبة للغاية في تاريخ البشرية وكان شاهدا على حربين عالميتين ووصول الفاشيين والشيوعيين إلى سدة الحكم واستخلص من تلك الأحداث العبر والدروس . قاتل في معارك الحرب العالمية الثانية وأصيب بجراح فمنح وساما عسكريا .. هاجر إلى الغرب بعد الحرب احتضن مهنة الصحافة التي مارسها باحترافية في كل من إذاعة صوت أمريكا و أوروبا الحرة ليصبح واحدا من أقوى الأصوات في الصحافة الرومانية ما بعد عام 1945 …وقف إلى جانب الشعب الروماني في جميع اللحظات الصعبة التي مر بها في النصف الثاني من القرن العشرين حتى عام 1989 . ويبقى مريتشا كارب في الذاكرة الجماعية كالصوت الذي كان يقول في مستهل كل قترة إذاعية : ” هنا راديو أوروبا الحرة ..”


    في عام 1997 تحدث ميرتشا كارب لمحرري مركز التاريخ المروي التابع للإذاعة الرومانية عن عمله في إذاعة صوت أمريكا وسئل عما إذا كان على علم بمعاناة المعتقلين السياسيين في رومانيا فأجاب :


    “بكل تأكيد كنا على علم بمأساتهم وكنا نتحدث عنها في برامجنا لكن كان علينا أن نتحلى بأقصى درجات الحذر ونحن نبث معلومات حول أوضاعهم .. وهذا انطبق على كافة الأنبأ والمعلومات التي كانت إذاعة صوت أمريكا تبثها والتي كان لا بد من وصولها إلينا من مصدرين مختلفين لكي نتأكد من صحتها …الحقيقة أنه فيي أحيان كثيرة كنا نشكك في صحة الأنبأ التي وصلتنا من رومانيا .. صحيح أننا كنا على علم بفظائع السجون الشيوعية ومعاناة المعتقلين السياسيين الذين كانوا ينفذون أحكاما بالأعمال الشاقة في قناة الدانوب .. كنا على علم بكل ذلك ولكن كان علينا أن نتحلى بالحذر عند إذاعة الأسماء والتواريخ و أسماء الأماكن تفاديا لأي خطأ قد يقع بسبب نسيان المصدر لبعض التفاصيل أو المبالغة فيها ..بطبيعة الحال كنا نبث تلك المعلومات بعد التأكد من صحتها كما كنا نبث مقابلات مع أشخاص غادروا رومانيا للتو وكان معظمهم يطالبوننا بعدم الكشف عن هويتهم خشية إحراج أقاربهم في رومانيا أو تعريضهم للخطر.”


    عمل كارب في إذاعة أوروبا الحرة اعتبارا من عام 1951 ثم انتقل إلى إذاعة صوت أمريكا حيث أصبح واحدا من اكثر المذيعين شعبية لدى المستمعين الناطقين بالرومانية لجودة البرامج التي كان يعدها . في عام عام 1978 عاد إلى إذاعة أوربا الحرة حيث تولى إعداد برنامج ” السياسة الخارجية ” الذي أصبح أحد أنجح برامج الإذاعة من حيث نسب المتابعة :


    “قبل انضمامي إلى هيئة تحرير القسم الروماني في إذاعة أوروبا الحرة كانت البرامج تنقصها الدينامية لكني أضفيت عليها شيئا من الدينامية التي كانت تتميز بها برامج صوت أمريكا وهكذا أصبحت مدة البرامج أقصر وتنوعت الأصوات والشخصيات التي تشارك في البرامج كما استضفنا في برامجنا أيضا شخصيات من مختلف البلدان بما فيها رومانيا .. وكان ضيوفنا من رومانيا فقط من المهاجرين إلى العالم الحر.لكن أهم شيء أن إذاعة أوربا الحرة أدركت أن سقوط الستار الحديدي بات وشيكا وكثفت حملتها على الأنظمة الشيوعية .. القسم الروماني أيضا أصبح يشدد على الوضع الصعب في رومانيا والذي كان لا يطاق وكان يتناوله بالتفصيل في برامجه ليكشف النقاب عن كل ما خفي من حقائق على جزء كبير من الرومانيين في الداخل . ربما تلك التفاصيل الكثيرة عن حقائق الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية في رومانيا آنذاك هي السبب وراء الشعبية الكبيرة التي تمتعت بها إذاعة أوربا الحرة بين الرومانيين الذين وإن كانوا على علم ببعض منها إلا أنه تعذر عليهم التحدث عنها أو التعبير عن مشاعرهم وآرائهم بصراحة على الملأ ..”


    الصحفي ميرتشا كارب احتفل في يناير كانون الثاني الماضي بعيد ميلاده المائة . لكن تاريخ الإعلام الروماني الحر لا يمكن أن يخلو من اسمه كما لا يمكن أن يخلو من أسماء زملائه البارزين في إذاعة أوروبا الحرة : نويل بيرنار ومونيكا لوفينيسكو و فلاد جورجيسكو ونيكولاي كونستنتين مونتيانو.